الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} انتصب {سنة الله} على أنه مفعول مُطلق نائب عن فعله. والتقدير: سَن الله إغراءك بهم سنتَه في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قُتّلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرها. وحرف {في} للظرفية المجازية، شُبهت السّنة التي عوملوا بها بشيء في وَسْطهم كناية عن تغلغله فيهم وتناوله جميعهم ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل: سنة الله مع الذين خَلَوا. و {الذين خلوا} الذين مَضَوا وتقدموا. والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الذين أذنه الله بقتلهم مثل الذين قُتلوا من المشركين ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة. وهذا أظهر لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض. ويحتمل أيضاً أن يشمل {الذين خلوا} الأممَ السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى مثل قوم فرعون وأضرابهم. وذيل بجملة {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سَنن واحد. والمعنى: لن تجد لسنن الله مع الذين خَلَوْا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلاً. وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلاً.
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} لما كان تهديد المنافقين بعذاب الدنيا يذكِّر بالخوض في عذاب الآخرة: خوض المكذبين الساخرين، وخوضضِ المؤمنين الخائفين، وأهللِ الكتاب، أتبع ذلك بهذا. فالجملة معترضة بين جملة {ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً} [الأحزاب: 60] وبين جملة {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً} [الأحزاب: 64] لتكون تمهيداً لجملة {إن الله لعن الكافرين}. وتكرر في القرآن ذكر سؤال الناس عن الساعة، والسائلون أصناف: منهم المكذبون بها وهم أكثر السائلين وسؤالهم تهكم واستدلال بإبطائها على عدم وجودها في أنظارهم السقيمة قال تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18] وهؤلاء هم الذين كثر في القرآن إسناد السؤال إليهم معبَّراً عنهم بضمير الغيبة كقوله: {يسألونك عن الساعة} [الأعراف: 187]. وصنف مؤمنون مصدقون بأنها واقعة لكنهم يسألون عن أحوالها وأهوالها، وهؤلاء هم الذين في قوله تعالى: {والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق} [الشورى: 18]. وصنف مؤمنون يسألون عنها محبة لمعرفة المغيبات، وهؤلاء نُهُوا عن الاشتغال بذلك كما في الحديث: «أن رجلاً سأل رسول الله: متى الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ماذا أعددتَ لها؟ فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صوم سوى أنِّي أُحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت ". وصنف يسأل اختباراً للنبيء صلى الله عليه وسلم لعله يجيب بما يخالف ما في علمهم فيجعلونه حجة بينهم على انتفاء نبوءته ويعلنونه في دهمائهم ليقتلعوا من نفوسهم ما عسى أن يخالطها من النظر في صدق الدعوة المحمدية. وهؤلاء هم اليهود نظير سؤالهم عن أهل الكهف وعن الروح. ف {الناس} هنا يعم جميع الناس وهو عموم عرفي، أي جميع الناس الذين من شأنهم الاشتغال بالسؤال عنها إذ كثير من الناس يسأل عن ذلك. وأهل هذه الأصناف الأربعة موجودون بالمدينة حين نزول هذه الآية. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} في سورة الأعراف (187). والخطاب في قوله: {وما يدريك} للرسول صلى الله عليه وسلم و{ما} استفهام مَا صْدَقُها شيء. و {يدريك} من أدراه، إذا أعلمه. والمعنى: أي شيء يجعل لك دراية. و{لعل الساعة تكون قريباً} مستأنفة لإنشاء رجاء. و {لعل} معلقة فعل الإِدْراءِ عن العمل، أي في المفعول الثاني والثالث وأما المفعول الأول فهو كاف الخطاب. والمعنى: أيُّ شيء يدريك الساعَة بعيدةً أو قريبةً لعلها تكون قريباً ولعلها تكون بعيداً، ففي الكلام احتباك. والأظهر أن {قريباً} خبر {تكون} وأن فعل الكون ناقص وجيء بالخبر غير مقترن بعلامة التأنيث مع أنه محتمل لضمير المؤنث لفظاً (فإن اسم الفاعل كالفعل في اقترانه بعلامة التأنيث إن كان متحملاً لضمير مؤنث لفظي) فقيل: إنما لم يقترن بعلاقة التأنيث لأن ضمير الساعة جرى عليها بعد تأويلها بالشيء أو اليوم. والذي اختاره جمع من المحققين مثل أبي عبيدة والزجاح وابن عطية أن {قريباً} في مثل هذه الآية ليس خبراً عن فعل الكون ولكنه ظرف له وهم يعنون أن فعل الكون تام وأن {قريباً} ظرف زمان لوقوعه. والتقدير: تقع في زمان قريب، فيلزم لفظُ (قريب) الإِفراد والتذكيرَ على نية زمان أو وقت، وقد يكون ظرف مكان كما ورد في ضده وهو لفظ (بعيد) في قوله: وإن تمس ابنة السهمي منا *** بعيداً لا تكلمنا كلاماً وقد أشار إلى جواز الوجهين في «الكشاف». وهذان الوجهان وإن تأتَّيَا هنا لا يتأتيان في نحو قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]. ويقترن (قريب) و(بعيد) بعلامة التأنيث ونحوها من العلامات الفرعية عند إرادة التوصيف. وكل هذه اعتبارات من توسعهم في الكلام. وتقدم قوله تعالى: {إن رحمة اللَّه قريب من المحسنين} في الأعراف فضُمَّه إلى ما هنا.
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} هذا حظ الكافرين من وعيد الساعة، وهذه لعنة الآخرة قُفِّيت بها لعنة الدنيا في قوله: {ملعونين} [الأحزاب: 61]، ولذلك عطف عليها {وأعد لهم سعيراً} فكانت لعنة الدنيا مقترنة بالأخذ والتقتيل ولعنة الآخرة مقترنة بالسعير. والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة {ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً إلى قوله: ولن تجد لسنة الله تبديلاً} [الأحزاب: 60 62] تثير في نفوس السامعين التساؤل عن الاقتصار على لعنهم وتقتِيلهم في الدنيا، وهل ذلك منتهى ما عوقبوا به أو لهم من ورائه عذاب؟ فكان قوله: {إن الله لعن الكافرين} الخ جواباً عن ذلك. وحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو منظور به إلى السامعين من الكافرين. والتعريف في {الكافرين} يحتمل أن يكون للعهد، أي الكافرين الذين كانوا شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآذوه وأرجفوا في المدينة وهم المنافقون ومن ناصرهم من المشركين في وقعة الأحزاب ومن اليهود. ويحتمل أن يكون التعريف للاستغراق، أي كل كافر. وعلى الوجهين فصيغة الماضي في فعل {لعن} مستعملة في تحقيق الوقوع، شُبه المحقق حصوله بالفعل الذي حصل فاستعير له صيغة الماضي مثل {أتى أمر اللَّه} [النحل: 1] لأن اللعن إنما يقع في الآخرة وهو مستقبل. وأما حالهم في الدنيا فمثل أحوال المخلوقات يتمتعون برحمة الله في الدنيا من حياة ورزق وملاذ كما هو صريح الآيات والأخبار النبوية، قال تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ظ متاع قليل} [آل عمران: 196، 197]. وقد يكون في ظاهر الآية متمسّك للشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله بانتفاء نعمة الله عن الكافرين خلافاً للماتريدي والقاضي أبي بكر الباقلاني والمعتزلة ولكنه متمسك ضعيف لأن التحقيق أن الخلاف بينه وبينهم خلاف لفظي يرجع إلى أن حقيقة النعمة ترجع إلى ما لا يعقب ألماً. والسعير: النار الشديدة الإِيقاد. وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعورة. وأعيد الضمير على السعير في قوله: {خالدين فيها} مؤنثاً لأن {سعيراً} من صفات النار والنار مؤنثة في الاستعمال. وجملة {لا يجدون ولياً ولا نصيراً} حال من ضمير {خالدين} أي خالدين في حالة انتفاء الولي والنصير عنهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} {يوم} ظرف يجوز أن يتعلق ب {لا يجدون} [الأحزاب: 65] أي إن وجدوا أولياء ونصراء في الدنيا من يهود قريظة وخيبر في يوم الأحزاب فيوم تقلب وجوههم في النار لا يجدون ولياً يَرثي لهم ولا نصيراً يُخلصهم. وتكون جملة {يقولون} حالاً من ضمير.
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} عطف على جملة {يقولون} [الأحزاب: 66] فهي حال. وجيء بها في صيغة الماضي لأن هذا القول كان متقدماً على قولهم: {يا ليتنا أطعنا الله} [الأحزاب: 66]، فذلك التمني نشأ لهم وقت أن مسّهم العذاب، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب وحشرهم مع رؤسائهم إلى جهنم، قال تعالى: {حتى إذا داركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} [الأعراف: 38]. فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رُصفوا ونسقوا قبل أن يصبّ عليهم العذاب ويطلق إليهم حرّ النار. والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال. والسادة: جمع سَيِّد. قال ابو علي: وزنه فَعَلة، أي مثل كَمَلة لكن على غير قياس لأن صيغة فَعَلَة تطَّرد في جمع فاعل لا في جمع فَيْعِل، فقلبت الواو ألفاً لانفتاحها وانفتاح ما قبلها. وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم. والسادة: عظماء القوم والقبائل مثل الملوك. وقرأ الجمهور {سادتنا}. وقرأ ابن عامر ويعقوب {ساداتِنا} بألف بعد الدال وبكسر التاس لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده. وهو جمع الجمع الذي هو سادة. والكبراء: جمع كبير وهو عظيم العشيرة، وهم دون السادة فإن كبيراً يطلق على راس العائلة فيقول المرء لأبيه: كبيري، ولذلك قوبل قولهم: {يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} [الأحزاب: 66] بقولهم: {أطعنا سادتنا وكبراءنا}. وجملة {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} خبر مستعمل في الشكاية والتذمر، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبرائهم. فالمقصود الإِفضاء إلى جملة {ربنا آتهم ضعفين من العذاب}. ومقصود من هذا الخبر ايضاً الاعتذار والتنصل من تَبِعة ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من الحقيقة إذ قالوا: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} فيتجه عليهم أن يقال لهم: لماذا أطعتموهم حتى يغروكم، وهذا شأن الدهماء أن يسوِّدوا عليهم من يُعجبون بأضغاث أحلامه، ويُغَرُّون بمعسول كلامه، ويسيرون على وقع أقدامه، حتى إذا اجتنوا ثمار أكمامه، وذاقوا مراراة طعمه وحرارة أُوامه، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه. وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار، وتقديم قولهم: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم: {فأضلونا السبيلا} لأن كبراءهم ما تأتَّى لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبّة. وبتسبب وضعهم أقوالَ سادتهم وكبرائهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وانتصل {السبيلا} على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدّى بالهمزة إلا أن مفعول واحد قال تعالى: {لقد أضلني عن الذكر} [الفرقان: 29]. وظاهر «الكشاف» أنه يتعدّى إلى مفعولين، فيكون (ضل) المجرد يتعدى إلى مفعول واحد. تقول: ضللت الطريق، و (ضل) يتعدى بالهمزة إلى مفعولين. وقاله ابن عطية. والقول في ألف {السبيلا} كالقول في ألف {الرسولا} [الأحزاب: 66]. وإعادة النداء في قولهم: {ربنا آتهم ضعفين من العذاب} تأكيد للضراعة والابتهال وتمهيد لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوهُ على كاهل كبرائهم. والضِعف بكسر الضاد: العدد المماثل للمعدود، فالأربعة ضعف الاثنين. ولما كان العذاب معنى من المعاني لا ذاتاً كان معنى تكرير العدد فيه مجازاً في القوة والشدة. وتثنية {ضعفين} مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4] فإن البصر لا يخسَأ في نظرتين، ولذلك كان قوله هنا: {آتهم ضعفين من العذاب} مساوياً لقوله: {فآتهم عذاباً ضعفاً من النار} في سورة الأعراف [38]. وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال عليهم، وأن العذاب الذي أعدّ لهم يسلط على أولئك الذين أضلّوهم. ووُصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا عذاباً لكفرهم وعذاباً لتسببهم في كفر أتباعهم. فالمراد بالكثير الشديد القوي، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله: {ضعفين} المراد به الكثرة. وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قِبل الجلالة بقوله: {قال لكل ضعف} [الأعراف: 38] يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضاً استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم ولتوسيد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} [الأحزاب: 57] حذر المؤمنين مما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نَسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبأون بما في ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى. ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة أصحابه عما يوجبه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحفّ بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل يترتب عليه من إخلال بالواجبات. وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم، نبه الله المؤمنين كي لا يَقعُوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير، فكانت حَرية بالإِيقاظ والتحذير. وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبَّهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبْح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] الآية. والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم. وقد حكى الله عنهم ذلك إجالاً وتفصيلاً بقوله: {وإذ قال موسى لقومه} الآية (فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله: {وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} والاستفهام في قوله: {لم تؤذونني} إنكاري). فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإِذاية. فالذين آذوا موسى قالوا مرة {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون} [المائدة: 24] فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم. وقالوا مرة {أَتتَّخِذُنا هزؤا} [البقرة: 67] فنسبوه إلى الطيش ولاسخرية ولذلك قال لهم {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67]. وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج «وقالوا لموسى فإذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر فإنه خير لنا أن نخدُم المصريين من أن نموت في البرية». وفي الإصحاجح السادس عشر «وقالوا لموسى وهراون إنكما أخرجتمونا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع». وفي الحديث «إن موسى كان رجلاً حييّاً ستِّيراً فقال فريق من قومه: ما نراه يستتر إلا مِن عاهة فيه. فقال قوم: به برص، وقال قوم: هو آدر» ونحو هذا، وكان قريباً من هذا قول المنافقين: إن محمداً تزوج مطلقة ابنه زيد بن حارثة. وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضَت فلتاتٌ من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حَكَم بينه وبين الزُبير في ماء شراح الحَرّة: أنْ كان ابنَ عمتِك يا رسول الله. ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمَة مغانم حُنين: «هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبَر». واعلم أن محل الشتبيه هو قوله: {كالذين آذوا موسى} دون ما فرع عليه من قوله: {فبرأه الله مما قالوا} وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا، ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبيئنا صلى الله عليه وسلم لم يُوذَ إيذاء يقتضي ظهور براءته ما أوذي به. ومعنى «بَرَّأه» أظهر براءته عيَاناً لأن موسى كان بريئاً مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإِن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبّت قلوبهم وافتتحوها وأظهر براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادّارأوا فيها. وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عرياناً لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه. ومعنى: «برأه مما قالوا» برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السُّبة القالة. ونظيره قوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80]، أي ما دل عليه مقاله وهو قوله: {لأوتين مالاً وولداً} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده. وجملة {وكان عند الله وجيهاً} معترضة في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته. والوجيه صفة مشبهة، أي ذو الوجاهة. وهي الجاه وحسن القبول عند الناس. يقال: وجُه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه. وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجْه الذي للإِنسان، فمعنى كونه وجيهاً عند الله أنه مرضيّ عنه مقبول مغفور له مستجاب الدعوة. وقد تقدم قوله تعالى: {وجيهاً في الدنيا والآخرة} في سورة [آل عمران: 45]، فضُمّه إلى هنا. وذكر فعل {كان} دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى. وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه، وتنويه وتوجيه لتنزيه الله إياه لأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم ورَبأَ بِهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم، وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتَّسِموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المنكر التلبّسُ بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول. والقول السديد مبثّ الفضائل. وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإِصغاء إليه. ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإِيماء يقتضي ما سيؤمرون به. ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصداً ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإِيمان. والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإِنسان يعبر عما في نفسه. والسديد: الذي يوافق السداد. والسداد: الصواب والحقُ ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمْتها بحيث إذا اندفع أصابها، فشمل القولُ السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبّه: إني أحبكز والقول يكون باباً عظيماً من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر. وفي الحديث: «وهل يَكُبّ الناس في النار على وجوههم إلاّ حصَائِد ألسنتهم»، وفي الحديث الآخر: «رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم»، وفي الحديث الآخر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت». ويشمل القولُ السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإِرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء. فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد. وفي الحديث: «نضَّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها» وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأيمة الفقه. ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح. ومن القول السديد الأذان والإِقامةُ قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} في سورة فاطر [10]. فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيّئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولما في التقوى والقولِ السديد من وسائل الصلاح جُعل للآتي بهما جزاءٌ بإِصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب. وهو نشر على عكس اللف، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد. وغفرانُ الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة، والتحولُ عن المعاصي بعدَ الهمّ بها ضرب من مغفرتها. ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كان عائدين على الذين آمنوا كانا عامَّيْن لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولاً سديداً أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولاً سديداً والعاملين به من سامعيه، وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قولَ غيره. وفي الحديث: «فَرَّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول، وكذلك التقوى تكون سبباً لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسياً أو حياء فتتعطل بعض المعاصي، وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر. وذكر {لكم} مع فعلي {يصلح-ويَغفر} للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1]. وجملة {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} عطف على جملة {يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} أي وتفوزوا فوزاً عظيماً إذا أطعتم الله بامتثال أمره. وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإِفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل. وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجملة واحدة.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض. وموقع هذه الآية عقب ما قبلها، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاً بمضمون ما قبلها، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها، ولو بتقليل الاحتمال، والمصير إلى المآل. والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع. وافتتاح الآية بمادة العَرض، وصَوغها في صيغة الماضي، وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يُومِئ إلى أن متعلق هذا العَرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرْض أَزَلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فُصُولها المقوّمة لمواهيها وخصائصها ومميزاتها الملائكة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} [الأعراف: 172] الآية. واختتام الآية بالعلّة من قوله: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات} [الأحزاب: 73] إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإِنسان في رعي الأمانة وإضاعتها. فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العَرض كان في مبدإ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌ بتعذيب المنافقين والمشركين، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى. فتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، أي نوع الإِنسان. والعرض: حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أوة يقبله ومنه عَرْضُ الحوض على الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرضُ المجنَّدين على الأمير لقبول من تأهل منهم. وفي حديث ابن عمر: «عُرِضَتُ على رسول الله وأنا ابن أربع فردني وعُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني». وتقدم عند قوله تعالى: {أولئك يعرضون على ربهم} في سورة هود [18]، وقوله: {وعرضوا على ربك صفاً} في سورة الكهف [48]. فقوله: {عرضنا} هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الشياء، وعدم وضعه في بقية الشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاً على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال الإِناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحيةِ الإِنسان لذلك، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإِنسان ذلك بعرض شيء على اشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها. وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص {السماوات والأرض} بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف الجبالر على {الأرض} وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} [الحشر: 21]. وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن نختار وترفض، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد منه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال: الطبيعة عمياء، أي لا اختيار لها، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً. ولذلك فأفعال {عَرضنا، أبَيْن، يحملنها، وأشفقن منها، وحملها} أجزاء للمركب التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إبداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرض والجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل، ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإِشفاق، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحمل للثقْل. ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ. وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل. وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دلّ على الحيرة في تقويم معناها. ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العَرض على السماوات والرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإِباء والإِشفاق. فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل. وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف، وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولاً وبعضها متداخل في بعض، ولنبتدئ بالإٍِلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها. فقيل: الأمانة الطاعة، وقيل: الصلاة، وقيل: مجموع الصلاة والصوم والاغتسال، وقيل: جميع الفرائض، وقيل: الانقياد إلى الدين، وقيل: حفظ الفرج، وقيل: الأمانة التوحيد، أو دلائل الوحداينة، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل: ما يؤتمن عليه، ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش في العمل، وقيل: الأمانة العقل، وقيل: الخلافة، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإِنسان كما قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] الاية. وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض. ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإِنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول. ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإِنسان وفطرته. فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإِيمان، اي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} وتقدم في سورة الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة مُلازِمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإِدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قولُه: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} [الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان بوحدانية الله. ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة تودع عند من يحتفظ بها. والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به. فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك غذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان. ومناسبة قوله: {ليعذب الله المنافقين} [الأحزاب: 73] الاية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول. ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: «إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة» أي إذا انقرضت الأمانة كان انقرائها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال. والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل اثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دَحرَجْتَه على رِجْلك فنفط فتراه منتبرً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من غيمان» أي من أمانة لأن الإِيمان من الأمانة لأنه عهد الله. ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها، وحينئذٍ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل. والقول في حَمل معنى الأانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] ثم قوله: {وعلم آدم السماء كلها} [البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها. وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرين الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية. والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عُهد به ورعْيهُ والحذارُ من الإِخلال به سهواً أو تقصيراً فيسمى تفريطاً وإضاعة، أو عمداص فيسمى خيانة وخيساً لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار} [الأحزاب: 15] وقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23]. وهذا المحمل يتضمن أيضاً أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هو العقل لأن قبول الأخلاق فرع عنه. وجملة {إنه كان ظلوماً جهولاً} محلها اعتراض بين جملة {وحملها الإنسان} والمتعلق بفعلها وهو {ليعذب الله المنافقين} [الأحزاب: 73] الخ. ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبرَ أن الإِنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإِنسان بما حُمِّله وتحمّله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإِنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله. فمعنى {كان ظلوماً جهولاً} أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً: بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ باسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولاً، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل. والظلم: الاعتداء على حق الغير واريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة. والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإِنسان بمواقع الصواب فيما تحمل به، فقوله: {إنه كان ظلوماً جهولاً} مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير: وحملها الإِنسان فلم يف بها إنه كان ظلوماً جهولاً، فكأنه قيل: فكان ظلوماً جهولاً، أي ظلوماً، اي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه اجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيّاً كان، وجهولاً في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعية بها، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإِنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فُطَر على تحملها. ويجوز أن يراد {ظلوماً جهولاً} في فطرته، اي في طبع الظلم، والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها. ولك أن تجعل ضمير {إنه} عائداً على الإِنسان وتجعل عمومه مخصوصاً بالإِنسان الكافر تخصيصاً بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر. أو تجعل في ضمير {إنه} استخداماً بأن يعود إلى الإنسان مراداً به الكافر وقد أطلق لفظ الإِنسان في مواضع كثيرة من القرآن مراداً به الكافرُ كما في قوله تعالى: {ويقول الإِنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66] الآية قوله: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: 6] الآيات. وفي ذكر فعل {كان} إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة. فصيغتا المبلاغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإِنسان والحكم الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير والترهيب. وهذا الإِجمال يبينه قوله عقبه: {ليعذب الله المنافقين} إلى قوله {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} [الأحزاب: 73] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين: أحدهما: مضيع للأمانة والآخر مراعٍ لها. ولذلك أثنى الله على الذين وَفّوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة {وكان عهد الله مسئولاً} [الأحزاب: 15] وقال فيها: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] وقال: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صاق الوعد} [مريم: 54] وقال في ضد ذلك: {وما يضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} إلى قوله: {أولئك هم الخاسرون} [البقرة: 26، 27].
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} متعلق بقوله: {وحملها الإنسان} [الأحزاب: 72] لأن المنافقين والمشركين والمؤمنين من اصناف الإِنسان. وهذه اللام للتعليل المجازي المسماة لامَ العاقبة. وقد تقدم القول فيها غير مرة إحداها قوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} في آل عمران [178]. والشاهد الشائع فيها هو قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] وعادة النحاة وعلماء البيان يقولون: إنها في معنى فاء التفريع: وإذ قد كان هذا عاقبة لحمل الإِنسان الأمانة وكان فيما تعلق به لام التعليل إجمال تعين أن هذا يفيد بياناً لما أُجمل في قوله: {إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72] كما قدمناه آنفاً، اي فكان الإِنسان فريقين: فريقاً ظالماً جاهلاً، وفريقاً راشداً عالماً. والمعنى: فعذب الله المنافقين والمشركين على عدم الوفاء بالأمانة التي تحملوها في اصل الفطرة وبحسب الشريعة، وتاب على المؤمنين فغفر لهم من ذنوبهم لأنهم وفوا بالأمانة التي تحملوها. وهذا مثل قوله فيما مر: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} [الأحزاب: 24] أي كما تاب على المؤمنين بأن يندموا على ما فرط من نفاقهم فيخلصوا الإِيمان فيتوب الله عليهم وقد تحقق ذلك في كثير منهم. وإظهار اسم الجلالة في قوله: {ويتوب الله} وكان الظاهر إضماره لزيادة العناية بتلك التوبة لما في الإِظهار في مقام الإِضمار من العناية. وذكر المنافقات والمشركات والمؤمنات مع المنافقين والمشركين والمؤمنين في حين الاستغناء عن ذلك بصيغة الجمع التي شاع في كلام العرب شموله للنساء نحو قولهم: حل ببني فلان مرض يريدون وبنسائهم. فذِكْرُ النساء في الآية إشارة إلى أن لهن شأناً كان في حوادث غزوة الخندق من إعانة لرجالهن على كيد المسلمين وبعكس ذلك حال نساء المسلمين. وجملة {وكان الله غفوراً رحيماً} بشارة للمؤمنين والمؤمنات بأن الله عاملهم بالغفران وما تقتضيه صفة الرحمة.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} افتتحت السورة ب {الحمد لله} للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإِلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإِخبار باختصاصه به. فجملة {الحمد لله} هنا يجوز كونها إخباراً بأن جنس الحمد مستحَق لله تعالى فتكون الّلام في قوله: {لله} لام الملك. ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وَجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام: أحمد الله. وقد تقدم الكلام على {الحمد لله} في سورة الفاتحة (2)، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف. وهذه إحدى سور خمس مفتتحة ب {الحمد لله} وهنّ كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه، والربع الأخير، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف. واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإِنشاء الثناء عليه لأن مِلكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجادُ تلك المملوكات وذلك الإِيجادُ عمل جميل يستحق صاحبه الحمد، وأيضاً هو يتضمن نعماً جمة. وهي أيضاً تقتضي حمد المنعِم، لأن الحمد يكون للفضائل وللفواضِل؛ فما في السموات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية، فيها هدى حسِّي ونفساني، وإليه معارجَ للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السِيَر، وإزالةُ الغِيَر، ونزول الغيوث بالمطر. وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين، ومنابت أرزاق المرتزقين، وميادين نفوس السائرين. وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لَها بما تحتوي عليه أدنى شعور، ونَسُوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض. وجملة {وله الحمد في الآخرة} عطف على الصلة، أي والذي له الحمد في الآخرة، وهذا إنباء بأنه مالكُ الأمر كله في الآخرة. وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة. وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي لا حمد في الآخرة إلا له، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذٍ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور. واعلم أن جملة: {الحمد لله} وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصراً مجازياً للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه، فلما شاع ذلك في جملة {الحمد لله} وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة {له الحمد} لهذا الاعتبار، وهذا نظير معنى قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]، فالمعنى: أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذٍ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرفُ غيرهِ بتصرفه. ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجعَ التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي {الحكيم الخبير}، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها. فالحكمة: إتقان التصرف بالإِيجاد وضده، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها. والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإِحكام وهو الإِتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها، وهو يستلزم التمكن من تصريفها، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين أقبلوا في شؤونهم على آلهة باطلة.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} بيان لجملة {وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1] لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة، فإن العلم يقتضي العمل، وإتقانُ العمل بالعلم. وخص بالذكر في متعلِّق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يَدِبّ على سطحها، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دَابًّا وجائلاً فيهما، والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدبّ عليها وما يزحف فوقها، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها. والولوج: الدخول والسلوكُ مثل ولُوج ماء المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة. والذي يخرج من الأرض، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها، وشمل ذلك من يُقبرون في الأرض وأحوالهم. والذي ينزل من السماء: المطر والثلج والرياح، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواصف الترابية، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء، وعروجُ الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4]. واعلم أن كلمتي {يلج} و{يخرج} أوضح ما يُعَبَّر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي {ينزل} و{يعرج} أوضح ما يعبَّر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالةً مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل: يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يُكتَفَ بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإِنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقتها بكتابي «أصول الإنشاء والخطابة» بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد. ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكَلم الطيّب أتبع ذلك بقوله: {وهو الرحيم الغفور} أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما، فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} {الرحيم الغفور * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}. كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعراً بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً} [المرسلات: 25، 26] وقال: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير} [ق: 44]، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها مومياً إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتُرَدّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله: {وله الحمد في الآخرة} [سبأ: 1] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة، فكان التخلص بقوله: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة}، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام. ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطراداً واعتراضاً، وتقدم آنفاً ما قيل: إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة. وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعَلَم بالغلبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعارف المسلمين. و {الساعة}: عَلَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر. وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت، لأن وقوعها هو إتيانها. وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس. ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإِبطال المؤكد على عادة إرشاد القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد. و {بلى} حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير (بل) أو مركب من (بل) وألف زائدة، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثُمّة ورُبّة، لكن {بلى} حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفاً و(بل) يجاب به الإِثبات والنفي وهو عاطف، وتقدم الكلام على {بلى} عند قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة} في سورة البقرة (81). وأكد ما اقتضاه بلى} من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإِقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين. وعُدّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون: لَتأتينَّا، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال: أتاكم العدوّ، وأتاك أتاك اللاّحقون، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب. وفعل (أتى) يرد كثيراً في معنى حلول المكروه مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] و{فأتاهم العذاب} [الزمر: 25] و{يوم يأتي بعض آيات ربك} [الأنعام: 158]، وقول النابغة: فلتأتينك قصائد وليدفعَن *** جيشاً إليك قوادم الأكوار وقوله: أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتني *** ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل (أتى) بحرف (على) فيقولون: أتى على كذا، إذا استأصله. ويكثر في غير ذلك استعمال فعل (جاء)، وقد يكون للمكروه نحو {وجاءهم الموج من كل مكان} [يونس: 22]. {وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى}. {عالمُ الغيب} خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله: {وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1] في قراءة من قرأه بالرفع، وصفة ل {ربي} المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكرَه مناسبةُ تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس. وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذُكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون. والغيب تقدم في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] على معان ذكرت هنالك. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {عالمُ الغيب} بصيغة اسم الفاعل، وبرفع {عالمُ} على القطع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضاً ومجروراً على الصفة لاسم الجلالة في قوله: {ربّي}. وقرأ حمزة والكسائي {علاّم} بصيغة المبالغة وبالجر على النعت. وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلاً سفسطائياً على أنها ليست بواقعة، ولذلك سماها القرآن الواقِعة في قوله: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 1، 2]. والعزوب: الخفاء. ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها. قرأ الجمهور بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى {لا يعزب عنه}: لا يعزب عن علمه. وقد تقدم في سورة يونس {وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} 61). وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء {وإن كان مثقال حبة من خردل} (47). وأشار بقوله: مثقال ذرة} إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رُفاتاً وتراباً فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها. ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلاً يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة. فإن عَدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالماً بمصير كل جزء، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتُنفخ فيها أرواحها. فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] ثم تنمو تلك الأجسام سريعاً فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا. وانظر قوله تعالى: {يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} في سورة القمر (6، 7)، وقوله: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} في سورة القارعة (4) فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البَيْض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تصير جراداً وتطير. ولهذا سمى الله ذلك البعث نَشْأة لأن فيه إنشاء جديداً وخلقاً معاداً وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع رُوح كل جسد إليه بعد تصويره بما سُمي بالنفخ فقال: {وإن عليه النشأة الأخرى} [النجم: 47] وقال: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان} [ق: 15، 16] الآية. أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل. وأشار بقوله: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)} لام التعليل تتعلق بفعل {لتأتينكم} [سبأ: 3] دون تقييد الإِتيان بخصوص المخاطبين بل المراد من شملهم وغيرهم لأن جزاء الذين آمنوا لا علاقة له بالمخاطبين فكأنه قيل: لتأتين الساعة ليجزَى الذين آمنوا ويجزَى الذين سعوا في آياتنا معاجزين، وهم المخاطبون، وضمير «يجزي» عائد إلى {عالمُ الغيب} [سبأ: 3]. والمعنى: أن الحكمة في إيجاد الساعة للبعث والحشر هي جزاء الصالحين على صلاح اعتقادهم وأعمالهم، أي جزاءً صالحاً مماثلاً، وجزاء المفسدين جزاء سيئاً، وعُلم نوع الجزاء من وصف الفريقين من أصحابه. والإِتيان باسم الإِشارة لكل فريق للتنبيه على أن المشار إليه جدير بما سيرد بعد اسم الإِشارة من الحكم لأجْل ما قبل اسم الإِشارة من الأوصاف. فجملة {أولئك لهم مغفرة} ابتدائية معترضة بين المتعاطفين. وجملة {أولئك لهم عذاب من رجز} ابتدائية أيضاً. وقوله: {والذين سعوا} عطف على {الذين آمنوا}، وتقدير الكلام: ليُجزى الذين آمنوا والذين سعوا بما يليق بكل فريق. والمعنى: أن عالم الإِنسان يحتوي على صالحين متفاوت صلاحهم، وفاسدين متفاوت فسادهم، وقد انتفع الناس بصلاح الصالحين واستضروا بفساد المفسدين، وربما عطل هؤلاء منافع أولئك وهذّب أولئك من إفساد هؤلاء وانقضى كل فريق بما عمل لم يلق المحسن جزاءً على إحسانه ولا المفسد جزاء على إفساده، فكانت حكمة خالق الناس مقتضية إعلامهم بما أراد منهم وتكليفهم أن يسعوا في الأرض صلاحاً، ومقتضية ادخار جزاء الفريقين كليهما، فكان من مقتضاها إحضار الفريقين للجزاء على أعمالهم. وإذ قد شوهد أن ذلك لم يحصل في هذه الحياة علمنا أن بعد هذه الحياة حياة أبدية يقارنها الجزاء العادل، لأن ذلك هو اللائق بحكمة مرشد الحكماء تعالى، فهذا مما يدل عليه العقل السليم، وقد أعلَمَنا خالقُ الخلق بذلك على لسان رسوله ورسله صلى الله عليه وسلم فتوافق العقل والنقل، وبطل الدَّجْل والدَّخْل. وجُعل جزاء الذين آمنوا مغفرة، أي تجاوزُوا عن آثامهم، ورزقاً كريماً وهو ما يرزقون من النعيم على اختلاف درجاتهم في النعيم وابتداء مدته فإنهم آيلون إلى المغفرة والرزق الكريم. ووصفَ بالكريم، أي النفيس في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {كتاب كريم} في سورة النمل (29). وقوبل الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ب {الذين سَعوا في آياتنا} لأن السعي في آيات الله يساوي معنى كفروا بها، وبذلك يشمل عَمل السيئات وهو سيئة من السيئات، ألا ترى أنه عبر عنهم بعد ذلك بقوله: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل} [سبأ: 7] الخ. ومعنى {سعوا في آياتنا} اجتهدوا بالصد عنها ومحاولة إبطالها، فالسعي مستعار للجد في فعل ما، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} في سورة الحج (51). وآيات الله هنا: القرآن كما يدل عليه قوله بعد: {الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [سبأ: 6]. و {معاجزين} مبالغة في مُعْجِزين، وهو تمثيل: شُبِّهت حالهم في مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بحال من يمشي مشياً سريعاً ليسبق غيره ويعجزه. والعذاب: عذاب جهنم. والرّجز: أسوَأْ العذاب وتقدم في قوله تعالى: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} في سورة البقرة (59). ومِن} بيانية فإن العذاب نفسه رجز. وقرأ الجمهور: {معاجزين} بصيغة المفاعلة تمثيلاً لحال ظنهم النجاة والانفلات من تعذيب الله إياهم بإنكارهم البعث والرسالة بحال من يسابق غيره ويعاجزه، أي يحاول عجزه عن لحاقه. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده {معجِّزين} بصيغة اسم الفاعل من عجّز بتشديد الجيم، ومعناه: مثبطين الناس عن اتباع آيات الله، أو معجزين من آمن بآيات الله بالطعن والجدال. وقرأ الجمهور: {أليمٍ} بالجر صفة ل {رجز}. وقرأه ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع صفة ل {عذاب}، وهما سواء في المعنى.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} عطف على {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [سبأ: 4] وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمراد بالذين سَعوا في الآيات الذين كفروا، عدل عن جعل صلة اسم الموصول {كفروا} [سبأ: 3] لتصلح الجملة أن تكون تمهيداً لإِبطال قول المشركين في الرسول صلى الله عليه وسلم {أفترى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 8]، لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديراً بأن يمهد لإِبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض، وهذه طريقة في إبطال شُبَه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبهة ما يقابلها من إبطالها، وربما سلك أهل الجدل طريقة أخرى هي تقديم الشبهة ثم الكرور عليها بالإِبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب «المواقف»، وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها التفتزاني في كتاب «المقاصد». والحق أن الطريقتين جادّتان وقد سُلكتا في القرآن. ويجوز أن تكون جملة {ويرى الذين أوتوا العلم} عطفاً على جملة {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} [سبأ: 5] فبعد أن أوردت جملة {والذين سعوا} لمقابلة جملة {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [سبأ: 4] الخ اعتبرت مقصوداً من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة {ويرى الذين أوتوا العلم} للإِشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيباً للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى. والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون (ويعلم) للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العِلم بالمرئيات التي علمها ضروري، ومفعولا (يرى) {الذي أنزل} و{الحق}. وضمير {هو} فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصراً إضافياً، أي لا ما يقوله المشركون مما يعارضون به القرآن، ويجوز أيضاً أن يفيد قصراً حقيقياً ادعائياً، أي قصر الحقِّيَّة المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل. و {الذين أوتوا العلم} فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخباراً عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]، فهذا تحدَ للمشركين وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وليس احتجاجاً بأهل الكتاب لأنهم لم يعلنوا به ولا آمن أكثرهم، أو هو احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذٍ تبعاً لعامتهم. وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم. والأظهر أن المراد من {الذين أوتوا العلم} مَن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن. وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه، فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظًّا غليظاً حتى إذا أسلم رقّ قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإِسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإِسلام. وهذا ما أعرب عنه قول أبي خراش الهذلي خالطاً فيه الجد بالهزل: وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل فإنهم كانوا إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم أشرقت عليهم أنوار النبوءة فملأتهم حكمة وتقْوَى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: «لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها». وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيهم ومُعَاهَدِهم وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة. وعلى هذا المحمل حمل {الذين أوتوا العلم} في سورة الحج (54) ويؤيده قوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} في سورة الروم (56). وجملة ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} في موضع المعطوف على المفعول الثاني ل {يَرَى}. والمعنى: يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هادياً إلى العزيز الحميد، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو {الحق} فإن المصدر في قوة الفعل لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق. والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإِشعارها بتجدد الهداية وتكررها. وإيثار وصفي {العزيز الحميد} هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإِيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8]، ويبلغ إلى الحمد، أي الخصال الموجبة للحمد، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)} انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} [سبأ: 3]. وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم {لا تأتينا الساعة} دعوى وقولهم: {هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} مستنَد تلك الدعوى، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه. وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بنقيض دليلهم، ثم إرداف ذلك التعجيب بالطعن في المتعجَّب به. والمخاطب بقولهم: {هل ندلكم} غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول، ولا غرض يتعلق بالمقول لهم. فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولاً بينهم، أو يقوله بعضهم لبعض، أو يقوله كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم. ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم. وهذا الذي يؤذن به فعل {ندلكم} من أنه خطاب لمن لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18] وهو عرض مكنّى به عن التعجيب، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال. والمعنى: تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هَيأوا ما يكون جواباً للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعي أنه رسول من الله إلى الناس، وعن الوحي الذي يُبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش: إنه قد حضر هذا الموسمُ وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأَجْمِعوا فيه رأيا واحداً ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكُم بعضاً ويردّ قولُكم بعضه بعضاً، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقُل وأقم لنا رأياً نقول به. قال: بل أنتم قولوا أسمعْ، قالوا: نقول كاهن؟ قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأيْنا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجُنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر؟ قال: لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقالوا: فنقول ساحر؟ قال: ما هو بنفثه ولا عَقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته. فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} طمعاً منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبساً باستحالة هذا الخَلْق الجديد. ويرجح ذلك إتمامها بالاستفهام {أفترى على الله كذباً أم به جنة}. ثم إن كان التقاول بين المشركين بعضِهم لبعض، فالتعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم ب {رجل} منكَّر مع كونه معروفاً بينهم وعن أهل بلدهم، قصدوا من تنكيره أنه لا يعرف تجاهلاً منهم. قال السكاكي «كأنْ لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما». وإن كان قول المشركين موجهاً إلى الواردين مكّة في الموسم، كان التعبير ب {رجل} جرياً على مقتضى الظاهر لأن الواردين لا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ولا دعوتَه فيكون كقول أبي ذَرّ (قبل إسلامه) لأخيه «اذهب فاستعلم لنا خبر هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيء». ومعنى: {ندلكم} نُعرفكم ونُرشدكم. وأصل الدلالة الإِرشاد إلى الطريق الموصل إلى مكان مطلوب. وغالب استعمال هذا الفعل أن يكون إرشادَ من يطلبُ معرفةً، وبذلك فالآية تقتضي أن هذا القول يقولونه للذين يسألونهم عن خبر رجل ظهر بينهم يدّعي النبوءة فيقولون: هل ندلكم على رجل يزعم كذا، أي ليس بنبيء بل مُفْترٍ أو مجنون، فمورد الاستفهام هو ما تضمنه قولهم: {إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة} أي هل تريدون أن ندلكم على من هذه صفته، أي وليس من صفته أنه نبيء بل هو: إما كاذب أو غير عاقل. والإِنباء: الإِخبار عن أمر عظيم، وعظمةُ هذا القول عندهم عظمة إقدام قائله على ادعاء وقوع ما يرونه محال الوقوع. وجملة {إنكم لفي خلق جديد} هي المنبَّأُ به. ولمّا كان الإِنباء في معنى القول لأنه إخبار صح أن يقع بعده ما هو من قول المنبِّئ. فالتقدير من جهة المعنى: يقول إنكم لفي خلق جديد، ولذلك اجتلبت (إنَّ) المكسورة الهمزة دون المفتوحة لمراعاة حكاية القول. وهذا حكاية ما نبَّأ به لأن المنبئ إنما نَبّأ بأن الناس يصيرون في خلق جديد. وأما شبه الجملة وهو قوله: {إذا مزقتم كل ممزق} فليس مما نَبَّأ به الرجلُ وإنما هو اعتراض في كلام الحاكين تنبيهاً على استحالة ما يقوله هذا الرجل على أنّه لازم لإِثبات الخلق الجديد لكل الأموات. وليس {إذَا} بمفيد شرطاً للخلق الجديد لأنه ليس يلزم للخلق الجديد أن يتقدمه البِلى، ولكن المراد أنه يكون البِلى حائلاً دون الخلق الجديد المنبَّأ به. وتقديم هذا الاعتراض للاهتمام به ليتقرر في أذهان السّامعين لأنه مناط الإِحالة في زعمهم، فإن إعادة الحياة للأموات تكون بعد انعدام أجزاء الأجساد، وتَكون بعد تفرقها تفرقاً قريباً من العدم، وتَكون بعدَ تفرق مَّا، وتَكون مع بقاء الأجساد على حالها بقاء متفاوتاً في الصلابة والرطوبة، وهم أنكروا إعادة الحياة في سائر الأحوال، ولكنهم خَصُّوا في كلامهم الإِعادة بعد التمزق كل ممزق، أي بعد اضمحلال الأجساد أو تفرقها الشديد، لقوة استحالة إرجاع الحياة إليها بعدئذٍ. والتمزيق: تفكيك الأجزاء المتلاصقة بعضها عن بعض بحيث تصير قطعاً متباعدة. والممزَّق: مصدر ميمي لمزَّقه مثل المسرَّح للتسريح. و {كل} على الوجهين مستعملة في معنى الكثرة كقوله تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] وقول النابغة: بها كل ذيّال *** وقد تقدم غير مرة. والخلق الجديد: الحديث العهد بالوجود، أي في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمان، فجديد فعيل من جَدّ بمعنى قطع. فأصل معنى جديد مقطوع، وأصله وصف للثوب الذي ينسجه الناسج فإذا أتمه قطعه من المنوال. أريد به أنه بحدثان قطعه فصار كناية عن عدم لبسه، ثم شاع ذلك فصار الجديد وصفاً بمعنى الحديث العهد، وتنوسي معنى المفعولية منه فصار وصفاً بمعنى الفاعلية، فيقال: جَدّ الثوب بالرقع، بمعنى: كان حديث عهد بنسج. ويشبه أن يكون (جد) اللازم مطاوعاً ل (جدّه) المتعدّي كما كان (جَبر العظمُ) مطاوعاً ل (جبر) كما في قول العجاج: قد جبر الدينَ الإِله فجَبر *** وبهذا يحق الجمع بين قول البصريين الذين اعتبروا جديداً فعيلاً بمعنى فاعل، وقول الكوفيين بأنه فعيل بمعنى مفعول، وعلى هذين الاعتبارين يجوز أن يقال: ملحفة جديد كما قال: {إن رحمة الله قريب} [الأعراف: 56]. ووصف الخلق الجديد باعتبار أن المصدر بمنزلة اسم الجنس يكون قديماً فهو إذن بمعنى الحاصل بالمصدر، ويكون جديداً فهو بمنزلة اسم الفاعل، فوصف بالجديد ليتمحّض لأحد احتماليه، والظرفية من قوله: {في خلق جديد} مجازية في قوة التلبس بالخلق الجديد تلبساً كتلبس المظروف بالظرف. وجملة {أفترى على الله كذباً أم به جنة} في موضع صفة ثانية ل {رجل} أتوا بها استفهامية لتشريك المخاطبين معهم في ترديد الرجل بين هذين الحالين. وحذفت همزة فعل {أفترى} لأنها همزة وصل فسقطت لأن همزة الاستفهام وُصلت بالفعل فسقطت همزة الوصل في الدرج. وجعلوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم دائراً بين الكذب والجنون بناء على أنه إن كان ما قاله من البعث قاله عن عمد وسلامة عقل فهو في زعمهم مفتر لأنهم يزعمون أن ذلك لا يطابق الواقع لأنه محال في نظرهم القاصر، وإن كان قاله بلسانه لإِملاء عقل مختلّ فهو مجنون وكلام المجنون لا يوصف بالافتراء. وإنما ردَّدوا حاله بين الأمرين بناء على أنه أخبر عن تلقي وحي من الله فلم يبق محتملاً لقسم ثالث وهو أن يكون متوهماً أو غالطاً كما لا يخفى. وقد استدل الجاحظ بهذه الآية لرأيه في أن الكلام يصفه العرب بالصدق إن كان مطابقاً للواقع مع اعتقاد المتكلم لذلك، وبالكذب إن كان غير مطابق للواقع ولا للاعتقاد، وما سوى هذين الصنفين لا يوصف بصدق ولا كذب بل هو واسطة بينهما وهو الذي يخالف الواقع ويوافق اعتقاد المتكلم أو يخالف الاعتقاد الواقع أو يخالفهما معاً، أو لم يكن لصاحبه اعتقاد، ومن هذا الصنف الأخير كلام المجنون. ولا يصح أن تكون هذه الآية دليلاً له لأنها حكت كلام المشركين في مقام تمويههم وضلالهم أو تضليلهم فهو من السفسطة، ثم إن الافتراء أخص من الكذب لأن الافتراء كان عن عمد فمقابلته بالجنون لا تقتضي أن كلام المجنون ليس من الكذب بل إنه ليس من الافتراء. والافتراء: الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على اللَّه الكذب} في سورة العقود (103). وقد ردّ الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالّون أو مُضِلُّون، وواهِمون أو مُوهِمون فأبطل قولهم بحذافره بحرف الإِضراب، ثم بجملة الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}. فقابل ما وصَفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفين: أَنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم: {أفترى على الله كذباً} لأن الذي يكذب على الله يسلِط الله عليه عذابه، وأنهم في {الضلال البعيد} وذلك مقابل قولهم: {به جنة}. وعدل عن أن يقال: بل أنتم في العذاب والضلال إلى {الذين لا يؤمنون بالآخرة} إدماجاً لتهديدهم. و {الضلال}: خطأ الطريق الموصّل إلى المقصود. و{البعيد} وصف به الضلال باعتبار كونه وصفاً لطريق الضالّ، فإسناد وصفه إلى الضلال مجازي لأنه صفة مكان الضلال وهو الطريق الذي حاد عن المكان المقصود، لأن الضالّ كلما توغّل مسافة في الطريق المضلول فيه ازداد بُعداً عن المقصود فاشتد ضلاله، وعسر خلاصه، وهو مع ذلك ترشيح للإِسناد المجازي. وقوله: {في العذاب} إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا. والظرفية بمعنى الإِعداد لهم فحصل في حرف الظرفية مجازان إذا جُعِل العذاب والضلال لتلازمهما كأنهما حاصلان معاً، فهذا من استعمال الموضوع للواقع فيما ليس بواقع تنبيهاً على تحقيق وقوعه.
|